فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الثالث: أن يعودَ على فرعون، واعتُرِضَ على هذا بأنه كيف يعودُ ضميرُ جمعٍ على مفرد؟ وقد اعتذر أبو البقاء عن ذلك بوجهين، أحدُهما: أنَّ فرعونَ لمَّا كان عظيمًا عندهم عاد الضمير عليه جميعًا، كما يقول العظيم، نحن نأمرُ، وهذا فيه نظرٌ، لأنه لو وَرَدَ ذلك مِنْ كلامهم مَحْكيًّا عنهم لاحتمل ذلك. والثاني: أنَّ فرعونَ صار اسمًا لأتباعه، كما أن ثمودَ اسمٌ للقبيلة كلها. وقال مكي وجهين آخرين قريبين من هذين، ولكنهما أخلصُ منهما، قال: إنما جُمع الضميرُ في {مَلَئهم} لأنه إبخار عن جبّار، والجبَّار يُخْبَر عنه بلفظِ الجمع، وقيل: لَمَّا ذُكِرَ فرعونُ عُلِمَ أنَّ معه غيرَه، فَرَجَع الضميرُ عليه وعلى مَنْ معه. قلت: وقد تقدَّم نحوٌ مِنْ هذا عند قوله: {الذين قَالَ لَهُمُ الناس إِنَّ الناس} [آل عمران: 173]، والمرادُ بالقائل نعيم بن مسعود، لأنه لا يَخْلو من مُساعدٍ له على ذلك القول.
الرابع: أنْ يعودَ على مضافٍ محذوف وهو آل، تقديره: على خوفٍ مِنْ آل فرعون ومَلَئهم، قاله الفراء، كما حُذِف في قوله: {وَسْئَلِ القرية} [يوسف: 82]. قال أبو البقاء بعد أن حكى هذا ولم يَعْزُه لأحد: وهذا عندنا غَلَط، لأنَّ المحذوفَ لا يعود إليه ضمير، إذ لو جاز ذلك لجاز أن يقول: زيد قاموا وأنت تريد غلمان زيد قاموا. قلت: قوله لأن المحذوف لا يعودُ إليه ضمير ممنوعٌ، بل إذا حُذِف مضافٌ فللعرب فيه مذهبان: الالتفاتٌ إليه وعَدَمُه وهو الأكثر، ويدل على ذلك أنه قد جَمَع بين الأمرين في قوله: {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} [الأعراف: 4] أي: أهل قريةٍ، ثم قال: {أو هم قائلون} وقد حَقَّقْتُ ذلك في موضعِه المشارِ إليه. وقوله: لجاز زيد قاموا ليس نظيرَه، فإنَّ فيه حَذْفًا من غيرِ دليلٍ بخلاف الآية.
وقال الشيخ بعد أن حكى كلامَ الفراء ورُدَّ عليه بأن الخوفَ يُمكن مِنْ فرعون، ولا يمكن سؤالُ القرية، فلا يُحْذَفُ إلا ما دلَّ عليه الدليل، وقد يقال: ويَدُلُّ على هذا المحذوفِ جَمْعُ الضمير في {ومَلَئهم}. قلت: يعني أنهم رَدُّوا على الفراء بالفرق بين: {وَسْئَلِ القرية} وبين هذه الآيةِ بأنَّ سؤالَ القرية غيرُ ممكنٍ فاضْطُرِرْنا إلى تقدير المضاف بخلاف الآية، فإن الخوف تَمَكَّن مِنْ فرعونَ فلا اضطرارَ بنا يَدُلُّنا على مضاف محذوف. وجوابُ هذا أنَّ الحَذْفَ قد يكون لدليلٍ عقلي أو لفظي، على أنه قيل في {واسأل القرية} إنه حقيقةٌ، إذ يمكنُ النبيُّ أن يسألَ القريةَ فتجيبَه.
الخامس: أن ثمَّ معطوفًا محذوفًا حُذِف للدلالة عليه، والدليلُ كونُ المَلِك لا يكونُ وحدَه، بل له حاشية وعساكر وجندٌ، فكان التقدير: على خَوْفٍ مِنْ فرعون وقومه ومَلَئهم، أي: ملأ فرعون وقومه، وهو منقولٌ عن الفراء أيضًا. قلت: حَذْفُ المعطوفِ قليلٌ في كلامهم، ومنه عند بعضهم قولُه تعالى: {تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] أي: والبرد، وقول الآخر:
كأن الحصى مِنْ خلفها وأمامِها ** إذا حَذَفَتْه رِجْلُها حَذْفُ أَعْسَرا

أي: ويدُها.
قوله: {أَن يَفْتِنَهُمْ} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه في محلِّ جرٍ على البدل مِنْ {فرعون}، وهو بدلُ اشتمالٍ تقديره: على خوفٍ من فرعون فِتْنَتِه كقولك: أعجبني زيد علْمُه. الثاني: أنه في موضعِ نصبٍ على المفعول به بالمصدر أي: خوفٍ فتنتَه، وإعمالُ المصدرِ المنوَّنِ كثيرٌ كقوله: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا} [البلد: 14-15]. وقولِ الآخر:
فلولا رجاءُ النصرِ منك ورَهْبَةٌ ** عقابَك قد كانوا لنا بالمَوارد

الثالث: أنه منصوبٌ على المفعول من أجله بعد حَذْفِ اللام، ويَجْري فيها الخلافُ المشهورُ.
وقرأ الحسن ونبيح {يُفْتِنَهم} بضم الياء وقد تقدَّم ذلك.
و{في الأرض} متعلقٌ بـ {عالٍ} أي: قاهر فيها أو ظالم كقوله:
فاعمِدْ لِما تَعْلُوا فمالك بالذي ** لا تَسْتطيع من الأمور يَدانِ

أي: لِما تَقْهر. ويجوز أن يكون {في الأرض} متعلقًا بمحذوف لكونه صفة لـ {عالٍ} فيكون مرفوع المحل، ويُرَجِّح الأولَ قولُه: {وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأرض}. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف الإمام القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{فَمَا آَمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ}
أهل الحقيقة في كل وقتٍ قليلٌ عَدَدُهم، كبيرٌ عند الله خَطَرُهم. اهـ.

.تفسير الآيات (84- 86):

قوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما ذكر خوفهم وعذرهم، أتبعه ما يوجب طمأنينتهم، وهو التوكل على الله الذي من راقبه تلاشى عنده كل عظيم، فقال: {وقال موسى} أي لمن آمن به موطنًا لهم على أن الجنة لا تنال إلا بمشقة عظيمة «يبتلى الناس على قدر إيمانهم»: {يا قوم} فاستعطفهم بالتذكير بالقرب وهزهم إلى المعالي به فيهم من القوة ثم هيجهم وألهبهم على الثبات بقوله: {إن كنتم} أي كونًا هو في ثباته كالخلق الذي لا يزول: {آمنتم بالله} وثبتهم بذكر الاسم الأعظم وما دل عليه من الصفات، وأجاب الشرط بقوله: {فعليه} أي وحده لما علمتم من عظمته التي لا يداينها شيء سواه: {توكلوا} وليظهر عليكم أثر التوكل من الطمأنينة والثبات والسكينة: {إن كنتم} أي كونًا ثابتًا: {مسلمين} جامعين إلى تصديق القلب إذعان الجوارح؛ وجواب هذا الشرط ما دل عليه الماضي من قوله: {فعليه توكلوا}، {فقالوا} أي على الفور كما يقتضيه الفاء: {على الله} أي الذي له العظمة كلها وحده: {توكلنا} أي فوضنا أمورنا كلها إليه: {ربنا} أي أيها الموجد لنا المحسن إلينا: {لا تجعلنا فتنة} أي موضع مخالطة بما يميل ويحيل: {للقوم الظالمين} أي لا تصبنا أنت بما يظنون به تهاونك بنا فيزدادوا نفرة عن دينك لظنهم أنا على الباطل ولا تسلطهم علينا مما يفتننا عن ديننا فيظنوا أنهم على الحق: {ونجنا برحمتك} أي إكرامك لنا: {من القوم} أي الأقوياء: {الكافرين} أي العريقين في تغطية الأدلة، وفي دعائهم هذا إشارة إلى أن أمر الدين أهم من أمر النفس. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ}
في الآية مسائل:
المسألة الأولى:
أن قوله: {إِن كُنتُمْ ءامَنْتُمْ بالله فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إن كنتم مسلمين} جزاء معلق على شرطين: أحدهما متقدم والآخر متأخر، والفقهاء قالوا: المتأخر يجب أن يكون متقدمًا والمتقدم يجب أن يكون متأخرًا ومثاله أن يقول الرجل لامرأته: إن دخلت الدار فأنت طالق إن كلمت زيدًا وإنما كان الأمر كذلك، لأن مجموع قوله: إن دخلت الدار فأنت طالق، صار مشروطًا بقوله إن كلمت زيدًا، والمشروط متأخر عن الشرط، وذلك يقتضي أن يكون المتأخر في اللفظ متقدمًا في المعنى، وأن يكون المتقدم في اللفظ متأخرًا في المعنى والتقدير: كأنه يقول لامرأته حال ما كلمت زيدًا إن دخلت الدار فأنت طالق، فلو حصل هذا التعليق قبل إن كلمت زيدًا لم يقع الطلاق.
إذا عرفت هذا فنقول: قوله: {إِن كُنتُمْ ءامَنْتُمْ بالله فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إن كنتم مسلمين} يقتضي أن يكون كونهم مسلمين شرطًا لأن يصيروا مخاطبين بقوله: {إِن كُنتُمْ ءامَنْتُمْ بالله فعليه توكلوا} فكأنه تعالى يقول للمسلم حال إسلامه إن كنت من المؤمنين بالله فعلى الله توكل، والأمر كذلك، لأن الإسلام عبارة عن الاستسلام، وهو إشارة إلى الانقياد للتكاليف الصادرة عن الله تعالى وإظهار الخضوع وترك التمرد، وأما الإيمان فهو عبارة عن صيرورة القلب عارفًا بأن واجب الوجود لذاته واحد وأن ما سواه محدث مخلوق تحت تدبيره وقهره وتصرفه، وإذا حصلت هاتان الحالتان فعند ذلك يفوض العبد جميع أموره إلى الله تعالى ويحصل في القلب نور التوكل على الله فهذه الآية من لطائف الأسرار، والتوكل على الله عبارة عن تفويض الأمور بالكلية إلى الله تعالى والاعتماد في كل الأحوال على الله تعالى.
واعلم أن من توكل على الله في كل المهمات كفاه الله تعالى كل الملمات لقوله: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3].
المسألة الثانية:
أن هذا الذي أمر موسى قومه به وهو التوكل على الله هو الذي حكاه الله تعالى عن نوح عليه السلام أنه قال: {فَعَلَى الله تَوَكَّلْتُ} [يونس: 71] وعند هذا يظهر التفاوت بين الدرجتين لأن نوحًا عليه السلام وصف نفسه بالتوكل على الله تعالى، وموسى عليه السلام أمر قومه بذلك فكان نوح عليه السلام تامًا، وكان موسى عليه السلام فوق التمام.
المسألة الثالثة:
إنما قال: {فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ} ولم يقل توكلوا عليه، لأن الأول يفيد الحصر كأنه عليه السلام أمرهم بالتوكل عليه ونهاهم عن التوكل على الغير، والأمر كذلك، لأنه لما ثبت أن كل ما سواه فهو ملكه وملكه وتحت تصرفه وتسخيره وتحت حكمه وتدبيره، امتنع في العقل أن يتوكل الإنسان على غيره، فلهذا السبب جاءت هذ الكلمة بهذه العبارة، ثم بين تعالى أن موسى عليه السلام لما أمرهم بذلك قبلوا قوله: {فَقَالُواْ عَلَى الله تَوَكَّلْنَا} أي توكلنا عليه، ولا نلتفت إلى أحد سواه، ثم لما فعلوا ذلك اشتغلوا بالدعاء، فطلبوا من الله تعالى شيئين: أحدهما: أن قالوا: {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لّلْقَوْمِ الظالمين} وفيه وجوه: الأول: أن المراد لا تفتن بنا فرعون وقومه لأنك لو سلطتهم علينا لوقع في قلوبهم أنا لو كنا على الحق لما سلطتهم علينا، فيصير ذلك شبهة قوية في إصرارهم على الكفر فيصير تسليطهم علينا فتنة لهم.
الثاني: أنك لو سلطتهم علينا لاستوجبوا العقاب الشديد في الآخرة وذلك يكون فتنة لهم.
الثالث: {لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لَهُمْ} أي موضع فتنة لهم، أي موضع عذاب لهم.
الرابع: أن يكون المراد من الفتنة المفتون، لأن إطلاق لفظ المصدر على المفعول جائز، كالخلق بمعنى المخلوق، والتكوين بمعنى المكون، والمعنى: لا تجعلنا مفتونين، أي لا تمكنهم من أن يحملونا بالظلم والقهر على أن ننصرف عن هذا الدين الحق الذي قبلناه، وهذا التأويل متأكد بما ذكره الله تعالى قبل هذه الآية وهو قوله: {فَمَا ءامَنَ لموسى إِلاَّ ذُرّيَّةٌ مّن قَوْمِهِ على خَوْفٍ مّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ} [يونس: 83] وأما المطلوب الثاني في هذا الدعاء فهو قوله تعالى: {وَنَجّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ القوم الكافرين}.
واعلم أن هذا الترتيب يدل على أنه كان اهتمام هؤلاء بأمر دينهم فوق اهتمامهم بأمر دنياهم، وذلك لأنا إن حملنا قولهم: {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لّلْقَوْمِ الظالمين} على أنهم إن سلطوا على المسلمين صار ذلك شبهة لهم في أن هذا الدين باطل فتضرعوا إلى الله تعالى في أن يصون أولئك الكفار عن هذه الشبهة وقدموا هذا الدعاء على طلب النجاة لأنفسهم، وذلك يدل على أن عنايتهم بمصالح دين أعدائهم فوق عنايتهم بمصالح أنفسهم وإن حملناه على أن لا يمكن الله تعالى أولئك الكفار من أن يحملوهم على ترك هذا الدين كان ذلك أيضًا دليلًا على أن اهتمامهم بمصالح أديانهم فوق اهتمامهم بمصالح أبدانهم وعلى جميع التقديرات فهذه لطيفة شريفة. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {... فَقَالُواْ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلَنْا}
يحتمل وجهين:
أحدهما: في الإسلام إليه.
الثاني: في الثقة به.
{رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَومِ الظَّالِمِينَ} فيه وجهان:
أحدهما: لا تسلطهم علينا فيفتنوننا، قاله مجاهد.
الثاني: لا تسلطهم علينا فيفتتنون بنا لظنهم أنهم على حق، قاله أبو الضحى وأبو مجلز. اهـ.

.قال ابن عطية:

قوله تعالى: {وقال موسى} إلى: {الكافرين} ابتداء حكاية قول موسى لجماعة بني إسرائيل المؤمنين منهم مؤنسًا لهم ونادبًا إلى التوكل على الله الذي بيده النصر ومسألة التوكل متشعبة للناس فيها خوضات، والذي أقول: إن التوكل الذي يأمرنا له هو مقترن بتسبب جميل على مقتضى الشرع، وهو الذي في قوله صلى الله عليه وسلم: «قيدها وتوكل» فقد جعله متوكلًا مع التقييد والنبي صلى الله عليه وسلم رأس المتوكلين وقد تسبب عمره كله، وكذلك السلف كله، فإن شذ متوكل فترك التسبب جملة فهي رتبة رفيعة ما لم يسرف بها إلى حد قتل نفسه وإهلاكها، كمن يدخل غارًا خفيًا يتوكل فيه فهذا ونحوه مكروه عند جماعة من العلماء، وما روي من إقدام عامر بن قيس على الأسد ونحو ذلك كله ضعيف، وللصحيح منه قرائن تسهله، وللمسلمين أجمعين قال الله تعالى: {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلًا من ربكم} [البقرة: 198]، ولهم قال: {وعلى ربهم يتوكلون} [الأنفال: 2] ليس فيه أنهم يتركون التسبب جملة واحدة ولا حفظ عن عكاشة أنه ترك التسبب بل كان يغزو ويأخذ سهمه، وأعني بذلك ترك التسبب في الغذاء، وأما ترك التسبب في الطب فسهل وكثير من الناس جبل عليه دون نية وحسبة، فكيف بمن يحتسب، وقال لهم: {إن كنتم آمنتم} مع علمه بإيمانهم على جهة إقامة الحجة وتنبيه الأنفس وإثارة الأنفة كما تقول، إن كنت رجلًا فقاتل، تخاطب بذلك رجلًا تريد إقامة نفسه، وقوله: {إن كنتم مسلمين}، يريد أهل طاعة منضافة إلى الإيمان المشروط، فذكر الإسلام فيه زيادة معنى، ثم ذكر أنه أجاب بنو إسرائيل بنية التوكل على الله والنطق بذلك، ثم دعوا في أن لا يجعلهم فتنة للظلمة، والمعنى لا تنزل بنا بلاء بأيديهم أو بغير ذلك مدة مجاورتنا لهم فيفتنون ويعتقدون إن إهلاكنا إنما هو بقصد منك لسوء ديننا وصلاح دينهم وأنهم أهل الحق، قاله مجاهد وغيره.
قال القاضي أبو محمد: فهذا لدعاء على هذا التأويل يتضمن دفع فصلين، أحدهما القتل والبلاء الذي توقعه المؤمنون، والآخر ظهور الشرك باعتقاد أهله أنهم أهل الحق، وفي ذلك فساد الأرض، ونحو هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم، «ليس الميت أبو امامة اليهود والمشركين يقولون: لو كان نبيًا لم يمت صاحبه»، ويحتمل اللفظ من التأويل وقد قالته فرقة: إن المعنى لا تفتنهم وتبتلهم بقتلنا فتعذبهم على ذلك في الآخرة وفي هذا التأويل قلق، باقي الآية بيّن. اهـ.